كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم بعد هذا كله فإننا نكرر أن الأئمة رحمهم الله لا يلحقهم نقص ولا عيب فيما أخذ عليهم. لأنهم رحمهم الله بذلوا وسعهم في تعلم ما جاء عن الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ثم اجتهدوا بحسب طاقتهم. فالمصيب منهم له أجر اجتهاده وإصابته. والمخطىء منهم مأجور في اجتهاده معذور في خطئه. ولا يسعنا هنا مناقشة الأدلة فيما أخذ عليهم رحمهم الله. وإنما قصدنا مع الاعتراف بعظم منزلتهم أن نبين أن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يجب تقديمهما على أقوالهم. لأنهم غير معصومين من الخطأ. وأن مذاهبهم المدونة لا يصح ولا يجوز الاستغناء بها عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وأن على كل مسلم قادر على التعليم أن يتعلم الكتاب والسنة. ومعرفة مذاهب الأئمة تعينه على ذلك. والنظر فيما استدل به كل منهم يعينه على معرفة أرجح الأقوال وأقربها غلى رضى الله.
وكذلك الشافعي وأحمد رحمهما الله. فإن كل واحد منهما لا يخلومن شيء قد أخذ عليه. ومرادنا هنا لتمثيل لذلك. وأن الوحي مقدم على أقوالهم جميعًا. وليس قصدنا الإكثار من ذلك.
وهذه أمثلة بالمطلوب وكان الشيخ رحمه الله أرجًا إيادها فنذكرها على ما هو ظاهر من المذهبين ونرجوا أن تكون موافقة لما أراد.
وبالله التوفيق.
فمما هو في مذهب أحمد رحمه الله صوم يوم الشك وهو يوم الثلاثين من الشعبان حينما يشك فيه هل هو تمام شعبان أو أول رمضان. وذلك حينما تكون السماء مغيمة خشية أن يظهر الهلال خلف الغيم أو القتر.
ولا يكون يوم شك إذا كانت السماء صحوًا لأنه غذا رؤي الهلال فهو رمضان وإلا فهو من شعبان.
فمذهب أحمد هو صوم هذا اليوم المشكوك فيه احتياطًا لرمضان. وهو نص المعنى إلا أنه ذكر عن أحمد روايات أخر. ولكن صومه هو المقدم في المذهب. ولكنه مخالف لصريح النص في قوله صلى الله عليه وسلم في ذلك: «من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم» صلى الله عليه وسلم.
قال في بلوغ المرام: ذكره البخاري تعليقًا ووصله. قال في سبل السلام: واعلم أن يوم الشك هو يوم الثلاثين من شعبان إذا لم ير الهلال في ليلة بغيم ساتر. أونحوه فيجوز كونه من رمضان وكونه من شعبان.
والحديث وما في معناه يدلعلى تحريم صومه. اه. يعني بما في معناه قوله صلى الله عليه وسلم «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين» متفق عليه. ولمسلم «فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين» وللبخاري «فأكملوالعدة ثلاين»
وشبهة أحمد في قوله صلى الله عليه وسلم «فاقدروا له» بمعنى فضيقوا عليكم كما في قوله تعالى: {وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا اتَاهُ الله} [الطلاق: 7] ولكن هذا معارض للنص الصريح في معنى «فاقدروا له ثلاثين» وقوله «فأكملوا العدة ثلاثين» أي سواء في شعبان أو في تمام رمضان عند الفطر.
ولم يقل بصومه من الأئمة إلا أحمد رحمه الله.
ومما هو عند الشافعي قوله بنقض الوضوء من مرد لمس المرأة الأجنبية بدون حائل مع ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في أحاديث عائشة رضي الله عنها «كنت أنام معترضة في القبلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي فإذا سجد غمزني في رجلي فأقبضها فإذا قام مددتها».
وقد أجابوا عن ذلك باحتمال سترها بحائل فجاء قولها افتقدت رسول الله ذات ليلة فقمت أطلبه أولحجرات ليس فيه نذاك السرج حتى وقعت كفي على بطن قدمه وهو ساجد يقول: «سبوح قدوس رب الملائكة والروح» فقلت: والله إنك لفي واد وأنا في واد.
فلما قام للركعة الثانية ظنته ذهب عند بعض نسائه اغتسل ثم جاء يصلي عندها فقامت وأدخلت يدها في شعر رأسه تتحس هل اغتسل أم لا. إلخ.
ولهم اجوبة على كل ذلك ولكنها لا تنهض مع هذه النصوص الصريحة.
وشبهة الشافعي في ذلك في معنى لامستم النساء من قوله تعالى: {أَوجَاءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الغائط أولاَمَسْتُمُ النساء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً فَتَيَمَّمُواْ} [النساء: 43]. الآية ولم يقل بنقض الوضوء به من الأئمة إلا الشافعي رحمه الله.
ومما ينبغي التنبيه عليه في هذا المقام أنه لا يتأتى من أحد أئمة المسلمين أن يخالف نصًا صريحًا من كتاب أوسنة. بدون أن تكون لديه شبهة معارضة بنص آخر. أو عدم بلوغ النص إليه. أو عدم صحته عنده أو غير ذلك مما هو معروف في هذا المقام.
وإنما أو ردنا هذين المثالين تتمة للبحث ولمجرد المثال.
التنيبه التاسع.
اعلم أن كل من يرى أنه لابد له من تقليد الغمام في كل شيء بدعوى أنه لا يقدر على الاستدلال بكتاب ولا سنة. ولا قول أحد من الصحابة ولا التابعين. ولا أحد غير ذلك الإمام.
يجب عليه أن يتنبه تنبهًا تامًا للفرق بين أقوال ذلك الإمام التي خالها حقًا. وبين ما ألحق بعده على قواعد مذهبه. وما زاده المتأخرون وقتًا بعد وقت من أنواع الاستحسان التي لا أساس لها في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولوعلم الإمام بإلحاقهم بمذهبه. لتبرأ منها. وانكر على ملحقها. فنسبة جميع ذلك للإمام من الباطل الواضح.
ويزيده بطلأنا نسبته إلى الله ورسوله. بدعوى أنه شرع ذلك على لسان رسوله. ونحوهذا كثير في المختصرات في المذاهب وكتب المتأخرين منهم.
ومن أمثلته في مذهب مالك قول خليل المالكي في مختصره الذي قال فيه مبينًا لما به الفتوى: كأقل الطهر يعني ان أقل الطهر بين الحيضتين خمسة عشر يومًا.
والذين يعتنقون مذهب مالك يعتقدون أن مالكًا يقول: بأن أقل الطهر بين الحيضتين خمسة عشر يومًا.
وهذا لم يقله مالك أبدًا ولم يفت به ولم يروه عنه أحد من أصحابه.
والذي كان يقوله مالك: إن أقل الطهر ثمانية أيام أو عشرة أيام.
وهوالذي نقله عنه أجلاء أهل مذهبه كأبي محمد بن أبي زيد في رسالته رحمه الله.
والقول بأن أقل الطهر خمسة عشر هو قول ابن مسلمة واعتمده صاحب التلقين. وجعله ابن شاش المشهور أي مشهور مذهب مالك.
مع أن مالكًا لم يقله ولم يعلم به. وأمثال هذا كثيرة جدًّا في مذهب مالك وغيره.
ومثال استحسان المتأخرين لما لم يقله الإمام مما لا يشك أنه لوبلغ الإمام لم يقبله قول الحطاب في شرحه لقول خليل في مختصره في الصوم: وعاشوراء وتاسوعاء. ما نصه: قال الشيخ زروق في شرح القرطبية: صيام المو لد كرهه بعض من قرب عصره ممن صلح علمه وورعه.
قال إنه من أعياد المسلمين فينبغي ألا يصام فيه. وكان شيخنا أبو عبد الله القوري يذكر ذلك كثيرًا ويستحسنه.
انتهى.
قلت: لعله يعني ابن عباد. فقد قال في رسائله الكبرى ما نصه: وأما المو لد فالذي يظهر لي أنه عيد من أعياد المسلمين وموسم من مواسمهم. وكل ما يفعل فيه مما يقتضيه وجود الفرح والسرور بذلك المو لد المبارك من إيقاد الشمع وإمتاع البصر والسمع والتزين بلبس فاخر الثياب وركوب فاره الدواب. أمر مباح لا ينكر على أحد قياسًا على غيره من أوقات الفرح.
والحكم بكون هذه الأشيئاء بدعة في هذا الوقت الذي ظهر فيه سر الوجود وارتفع فيه علم الشهود وانقشع فيه ظلام الكفر والجحود. وادعاء أن هذا الزمان ليس من المواسم المشروعية لأهل الإيمان ومقارنة ذلك بالنيروز والمهرجان أمر مستثقل تشمئز منه القلوب السليمة وتدفعه الاراء المستقيمة.
ولقد كنت فيما خلا من الزمان خرجت في يوم مو لد إلى ساحل البحر. فاتفق أن وجدت هناك سيدي الحاج بن عاشر رحمه الله وجماعة من أصحابه وقد أخرج بعضهم طعامًا مختلفًا ليأكلوه هنالك.
فلما قدموه لذلك أرادوا مني مشاركتهم في الأكل. وكنت إذ ذاك صائمًا فقلت لهم: إني صائم.
فنظر إلى سيدي الحاج نظرة منكرة. وقال لي ما معناه: إن هذا اليوم يوم فرح وسرور يستقبح في مثله الصيام بمنزلة العيد.
فتأملت كلامه فوجدته حقًا. وكأنني كنت نائمًا فأيقظني. انتهى بلفظه.
فهذا الكلام الذي يقتضي قبح صوم يوم المو لد وجعله كيوم العيد من غير استناد إلى كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ولا قول أحد من أصحابه ولا من تابعيه.
ولم يقل به أحد من الأئمة الأربعة ولا من فقهاء الأمصار المعروفين الذي أجخله بعض المتأخرين في مذهب مالكن ومالك بريء منه براءة الشمس من اللمس. ولم يجر على أصو ل مذهبه. لأن علة تحريم صوم يوم العيد والفطر عنده أن الله تعالى يكلف عباده في كل سنة عبادتين عظيمتين والأمر بهما عام لكل من يستطيعهما. وإحداهما تجب في العمر مرة واحدة وهي الحج. والثانية تجب كل سنة في شهر رمضان منها. وهي الصوم. فإذا انتهت عبادت الصوم ألزم الله الناس كلهم أن يكونوا في ضيافته يوم النحر ويوم عيد الفطر.
فمن صام في أحد اليومين أعرض عن ضيافة الله. والإعراض عن ضيافته تعالى لا يجوز.
فإلحاق يوم المو لد بيوم العيد إلحاق لا أساس له. لأنه إلحاق ليس بجامع بينهما ولا نفي فارق ولا إلحاق ألبتة إلا بجامع أونفي فارق.
وكل من لمس يطمس الله بصيرته يعلم أن الحق الذي لا شك فيه هو اتباع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
ومعلوم أن جعل يوم المو لد كيوم العيد في منع الصوم لم يقله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه ولا أحد من الأئمة الأربعة.
فهو تشريع لاستقباح قربة الصوم ومنعها في يوم المو لد من غير استناد إلى وحي ولا قياس صحيح ولا قول أحد ممن يقتدى به.
ومما لا نزاع فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسله الله رحمه للعالمين كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] ورسالته صلى الله عليه وسلم هي أعظم نعمة عل الخلق كما بينه علماء التفسير في الكلام على قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْرًا} [إبراهيم: 28] الآية. والخير كل الخير في اتباعه صلوات الله وسلامه عليه. والشر كل الشر في تشريع ما لم يشرعه والتقول عليه بما لم يقله.
فالمقلدون لمالك مثل هذا التقليد الأعمى يعتقدون أن هذا الكلام الذي ذكره الحطاب عن زروق وابن عباد وابن عاشر. أنه هو مذهب مالك وأنه من شرع الله ودينه. وأنه ما دام من مذهب مالك. فاللازم تقديمه على الكتاب والسنة لأنهما لا يجوز العمل إلا للمجتهد المطلق.
وهذا مثال من بلايا التقليد الأعمى وعظائمه.
ولا يخفى أن ادعاء أن وجود نعم الله كمو لد النبي صلى الله عليه وسلم يدل على استقباح طاعة الله بالصوم في أوقات وجود تلك النعم ظاهر الفساد. لأن المناسب لنعم الله هو طاعته بأنأو ع الطاعات كالصوم.
ولذا تجد الناس ينذرون لله صوم اليوم الذي ينعم الله عليهم فيه بشفاء المريض إتيان الغائب. وهذا أمر معروف وهو المعقول لا عكسه.
ومما يوضح هذا أن إنزال القرآن العظيم هو أعظم نعمة على البشر.
ولأجل ذلك علمهم الله حمده تعالى على هذه النعمة العظمى في أول سورة الكهف في قوله تعالى: {الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب} [الكهف: 1] الآية.
وقد بين تعالى أنه أنزل هذه النعمة في شهر رمضان. فكان نزول هذه النعمة في شهر رمضان مقتضيًا لصومه لا لجعل أيامه أعيادًا يستقبح صومها. لأن الله تعالى قال: {شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهدى والفرقان} [البقرة: 185].
وهذا هو أعظم النعم. وقد رتب على هذا بالفاء قوله بعده. {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]. الآية فافهم.
والمقصود بهذا المثال النصيحة للذين لم يقدروا على غير هذا التقليد الأعمى ليبحثوا في كتب المذهب وأمهاته عن أقوال الإمام وكبار أصحابه ليفرقوا بينهما وبين أنواع الاستحسان التي لا مستند لها. التي يدخلها المتأخرون وقتًا بعد وقت وهي ظاهرة الفساد عند من رزقه الله علمًا بكتاب الله وسنة رسوله.
ومما لا شك فيه أن أقوال مالك وكبراء أصحابه مثلًا. أحرى بالصواب في الجملة من استحسان ابن عباس وابن عاشر وأمثالهما.
التنبيه العاشر.
اعلم أن الدعوى التي اتفق عليها متأخروالأصو ليين التي تتضمن حكمهم على خالق السماوات والأرض جل وعلا لا يجوز لمسلم يريد الحق والأنصاف أن يعقتدها. ولا أن يصدقهم فيها لظهور عدم صحتها ومخالفتها للنص. والحكم فيها على الله بلا مستند. وهو جل وعلا الذي يحكم لا معقب لحكمه. وهو سريع الحساب.
وهذه الدعوى المذكورة هي المتركبة مما يأتي. وهو أن الاجتهاد قد انقرض في الدنيا واسند بابه.
وأن الله تعالى تحكوم عليه بأن لا يخلق مجتهدًا ولا يعلم أحدًا من خلقه علمًا يمكن أن يكون به مجتهدًا إلى ظهور المهدي المنتظر.
وأنه لا يجوز لأحد أن يعمل بكتاب ولا سنة ولا أن يقلد أحدًا كائنًا من كان غير الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المدونة. كما نص على هذه الدعوى حاكيًا إجماعهم عليها صاحب مراقي السعود في قوله:
والمجمع اليوم عليه الأربعه ** وقفوغيرها الجميع منعه

حتى يجيء الفاطم المجدد ** دين الهدى لأنه مجتهد

ومراده بالفاطمي المهدي المنتظر لأنه شريف.
وقوله: حتى يجيء. حرف غاية. والمغيا به. منع تقليد أحد غير الأربعة المذكور في قوله: وقفوا غيرها الجميع منعه.
وهذا صريح في أنهم حاكمون على الله القدير العليم. بأنه لا يخلق مجتهدًا قبل وجود المهدي المنتظر. وهذا الذي قاله صاحب مراقي السعود هو المقرر في كتب المتأخرين من الأصو ليين من أهل المذاهب المدونة.